الكلمة الطيبة كمثال للرد على تركيب المرجئة
ويتضح هذا بالمثال الآخر: وهو ما ضربه الله تبارك وتعالى للكلمة الطيبة: كلمة: لا إله إلا الله، كلمة الإيمان والتقوى، فقال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ))[إبراهيم:24-25]، فالإيمان باطن وظاهر، وكذلك الشجرة جذور تمتد في باطن الأرض، ولا تظهر ولا ترى، لكن ارتواء الجذور يظهر بامتداد الفروع والأغصان ونمو الجذع، فكيف نرد على من يقول: التقوى هاهنا؟ نقول: التقوى في القلب كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا يظهر على جوارحه أي عمل من أعمال الخير، ولا يحق له أن يحتج بهذا، وهو مثل إنسان قلت له: أنا أرى أرضك مقفرة ليس فيها شجرة، فقال: لا، إذ إن فيها جذوراً مدفونة، فنقول له: ماذا نريد بجذور مدفونة في الأرض ليس لها غصن ولا ساق ولا ثمرة؟ إن هذا دعوى، ومثله من يقول: الإيمان ههنا، وأعماله الظاهرة مخالفة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك لا ينفعه أبداً، وهكذا ضرب الله تعالى هذه الكلمة الطيبة، فإذا قطع من الشجرة غصن فإنها تبقى شجرة، ولهذا يقول أهل السنة : مرتكب الكبيرة يظل يطلق عليه اسم الإيمان، ولا يقال: شجرة كاملة، بينما المرجئة يقولون: مرتكب الكبيرة كامل الإيمان، فنقول: كيف وقد قطع منها هذا الغصن؟ لكن لو تساقط منها أوراق من أعلاها فلا يؤثر ذلك، ولهذا نؤثر كلمة المستحب حتى لا يلتبس؛ لأن السنة هي الهدي والطريقة، ومنها ما هو ركن، ومنها ما هو واجب، ومنها ما هو أيضاً مستحب، لكن نتكلم عنها بمعنى المندوب، فإذا بتر جذع الشجرة فقد ذهبت الشجرة -وهي شهادة أن لا إله إلا الله- وهو الإيمان الذي هو ملتقى ومجمع الأركان الباقية التي تتفرع منه، إذا قطع لم تبق الشجرة، فلذلك يكون لا إيمان له أعمق، ومن ذلك: لو اجتثت جذور الشجرة من تحت الأرض، فلا تسمى شجرة أصلاً، ولذلك لا يسمى إيمان المنافق إيماناً إلا شكلياً، فلو أوتي -مثلاً- بشجر من البلاستيك، ووضع في حديقة مليئة بالأشجار اليانعة، ووضعت بينها عشرون أو ثلاثون شجرة، ثم دخل إنسان فإنه لا يفرق بين هذا وهذا، ويظن أن هذا كله شجر؛ لأن الشكل والمظهر واحد، والجذور لا يراها إلا لو قلع واحدة بيده، وهكذا حال المنافقين بين المسلمين، فتراهم يمشون مع المسلمين في أسواقهم وفي مساجدهم وتظنهم منهم، ولا تميزهم إلا إذا علمت عن فلان بعينه فإذا لا ماء ولا حياة فيه، ولا جذور له في الخير، وإنما هو شكل ظاهر فقط يدخل به بين المؤمنين، وهكذا تكون بلاغة القرآن في الذروة عندما يضرب مثل هذه الأمثلة، ويريد منا أن نتدبرها وأن نتفطن فيها وأن نتفقهها، فمن أراد زيادة الإيمان وثمراته وفروعه ليعلو ويسمو في السماء، فليرو هذه الشجرة، وإرواء هذه الشجرة بقراءة القرآن، وبذكر الله، وبالتفكر في ملكوت السموات والأرض، وفي زيارة المقابر، وتذكر أحوال الغابرين ومصارعهم، بل وفي كل ما جعله الله تبارك وتعالى -وهذا ما قلناه إلا جزءاً منه- في كتابه مما يزيد الإنسان إيماناً، وكذلك دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم مما تزيد الإنسان إيماناً.والخلاصة: أن الإيمان عند أهل السنة والجماعة مركب ويزيد وينقص، لكن من هذا النوع الثاني من المركبات، فلذلك الماء يطلق على ما في الكوب، ويطلق على ماء البحر، فهذا ماء وذاك ماء، لكن أين هذا من ذاك؟ إذاً بعض الناس عنده إيمان، ولكن ذاك إيمانه مثل البحر، وهذا إيمانه مثل القطرة، ففرق بين هذا وذاك، ويوم القيامة يكون التفاوت كذلك، فلذلك يكون منهم من يكون في أعلى درجات الجنة، أهل الجنة الذين في الدرجات الدنى كما يترآى من على الأرض الكوكب الدري في السماء، ومنهم من يكون في أسفل دركات النار والعياذ بالله، وآخر أهل الجنة دخولاً لها: الذين هم آخر أهل النار خروجاً منها من أهل التوحيد، الذين ليس في قلب أحدهم إلا أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان كما ثبت ذلك في الحديث، ثم من كان أفضل فهو أسرع وأحرى أن يخرج، ثم من كان أكثر إلى حد أنه لا يدخل النار، ولكن يكون في الدرجة الدنيا من الجنة، ثم من كان أعلى يكون أعلى في الجنة وهكذا، ولذلك يظهر أن مذهب أهل السنة والجماعة يتفق فيه النقل الصحيح الصريح مع العقل السليم الصريح أيضاً.